زيارة قائد القيادة المركزية الأمريكية "مايكل كوريلا" إلى مصر لم تكن عابرة، بل جاءت كاستدعاء عاجل من واشنطن للعقل العسكري الأمريكي لمخاطبة الدولة المصرية بمنطق الجدية لا المجاملات. إنها لحظة تعبير عن "الذكاء الأمريكي" في احتواء التصعيد الذي فجره دونالد ترامب من جهة، وبراكين التوتر الناتجة عن أفعال نتنياهو على الجبهة الفلسطينية من جهة أخرى.
التوتر بين القاهرة وتل أبيب..
في تل أبيب، ارتباك واضح: نتنياهو يصرخ، الإعلام الإسرائيلي يتشنج، واللوبي الصهيوني يهمس في آذان الساسة الأمريكيين: "الجيش المصري على حدودنا!"، و"السيسي قد يمزق اتفاقية كامب ديفيد في لحظة!"
المشهد أكثر تعقيدًا مما يتصور البعض، فبين تهديد نتنياهو بضم الضفة، وضغوط أوكرانيا وإثيوبيا وصندوق النقد، وجد ترامب نفسه يتدخل كعادته.
جاء ليكحلها فعماها، فهدد الدول المنضمة للبريكس بالعقوبات وأنه سيغلق الباب التي تلعب على الحبل، ووجّه حديثًا مباشرًا للشعب المصري: "سد النهضة سيكون سبب هلاككم، ونحن من موّله ويمكننا إنهاؤه!"
اندلعت الحرائق، وتصاعدت تحركات مجموعات متطرفة عبر الإنترنت، ودُعي لثورة تحت هاشتاجات مشبوهة... رسالة واضحة لمصر: عرقلت المشروع الصهيوني ثمنه تهديد الدولة.
واشنطن تراجع أوراقها.. هل آن وقت التصعيد ضد مصر؟
داخل أروقة الاستخبارات الأمريكية، يجري تشريح مفصل لنقاط القوة والضعف في بنية الدولة المصرية. هل تُستدرج مصر لفتح جبهة؟ وهل تستجيب لضغوط تل أبيب؟
لكن الحقيقة القاسية التي واجهتها واشنطن: فتح جبهة مع مصر كارثة.
فإسرائيل حاليًا، حتى لو نامت عارية بلا سلاح، فلن تغري مصر. تعرف أن مصر لا تنقض عهودها. أما إذا فُرض على الجيش المصري الرد، فلن يتحرك إلا بعد إعلان إلغاء كامب ديفيد رسميًا.
وأمريكا تعلم أن أي مواجهة مباشرة مع مصر تعني الغرق في بحر من الرمال لا قرار له. الرد المصري سيكون مدروسًا، لكنه حاسم إذا تم تجاوز الخطوط الحمراء.
خيارات على الطاولة.. لكن مصر لا تهتز
سيناريوهات المواجهة.. تصعيد أمريكي سيقابله تصعيد مصري
1. الخيار العسكري المباشر لا يصلح مع مصر:
أي تصعيد عسكري أمريكي–إسرائيلي لن يمر مرور الكرام، وسيناريو "الحرب الخاطفة" الذي استخدمته إسرائيل مع إيران وأخرجتها منه واشنطن، لن يجدي نفعًا مع مصر. فالجيش المصري اليوم في جاهزية مختلفة، وأي مواجهة مباشرة ستشهد تحركًا سريعًا قد يُنهي القوة الإسرائيلية خلال دقائق، قبل أن تتاح الفرصة لأي تدخل أمريكي أو من الحلفاء.
2. العقوبات الاقتصادية لا تردع مصر بل تُحرّرها:
الرهان على العقوبات لإجبار القاهرة على تغيير مواقفها لن ينجح. مصر لن ترضخ، بل ستغلق باب التفاوض، وقد ترد بتوسيع شراكاتها مع قوى دولية منافسة، بما يفتح الطريق لطرد النفوذ الأمريكي من المنطقة لصالح قوى أخرى مستعدة للتعاون دون شروط سياسية.
3. محاولة خلخلة التلاحم الأمني من الداخل:
أحد أخطر السيناريوهات التي قد تُختبر بها صلابة الدولة المصرية، هو ضرب اللُحمة التي بناها الرئيس المصري بين الرئاسة والجيش والأجهزة الأمنية والاستخباراتية. ويتم ذلك بتحريك المعارضة، وتفعيل أدوات مثل "حسم"، مع التهديد بثورة مصطنعة عبر منصات التواصل.
4. استغلال الإعلام البديل لزرع الفتنة:
يتمثل التحدي الأخطر في الوصول إلى الشعب المصري عبر اختراق ناعم، بترويج مشكلات داخلية مبالغ فيها، وتنظيم مساحات رأي على منصات مثل "تويتر" (X)، واستغلال الفجوة التي تركها الإعلام التقليدي لزرع الشائعات وبث الفتنة بين الشعب والحكومة.
الرهان الأساسي في هذا المخطط هو ضرب التلاحم بين القيادة والشعب، اعتمادًا على شرارة صغيرة تُستغل لإشعال الداخل دون إطلاق رصاصة واحدة من الخارج. إنها "ثورة مصطنعة" بوجوه مأجورة وشعارات مفخخة، لكنها تواجه وعيًا عامًا بدأ يتشكل بقوة..
لكن مصر لم ترتجف، ولم تتوسل رحمة أحد. فوجئت الأجهزة بصلابة موقف القاهرة. فبدأ التفكير في بدائل جديدة... أكثر نضجًا.
الجنرال كوريلا.. ضابط البنتاجون الأعلى إلى القاهرة
بعد جلسة عصف ذهني داخل البنتاجون، رأت واشنطن أن من يخاطب مصر لا بد أن يكون عسكريًا. فتم تكليف "مايكل كوريلا" الجنرال الأعلى رتبة بالمنطقة، في مهمة أشبه بمبعوث خاص برتبة نائب غير معلن للرئيس الأمريكي.
واختيار قائد القيادة المركزية الأمريكية (سنتكوم) لم يكن عبثًا. كوريلا لا يحمل مجاملات دبلوماسية، بل يحمل ملفات نارية: الإرهاب، سيناء، الحدود، سد النهضة، البحر الأحمر، السلاح، غزة، ليبيا، والسودان.
لماذا جاء كوريلا؟ 4 رسائل واضحة
1. تهدئة مصر: زيارة كوريلا جاءت لطمأنة القاهرة بأن الاعتماد الأمريكي عليها ثابت، وأن التنسيق العسكري مستمر، وأن تصريحات ترامب لا تعبّر عن تغيير جوهري في العلاقة.
2. فتح باب لترامب عبر قناة "آمنة": بدلًا من تغريدة على منصة Truth Social، نُقلت تحيات ترامب عبر كوريلا مباشرة إلى الرئيس السيسي، في خطوة بدت مدروسة لضمان أن الرسالة تُفهم كما أُرسلت، دون ضجيج سياسي.
3. رسالة للكونجرس واللوبي الصهيوني: البنتاجون يخاطب الداخل الأمريكي: مصر حليف لا غنى عنه، دعمها يحفظ مصالح أمريكا في غزة والبحر الأحمر، لا العكس.
4. رسالة إلى روسيا والصين: أمريكا تقول للقوى الكبرى: "مصر لم تغادر بيتها بعد." رغم تنامي العلاقات مع البريكس، فواشنطن لا تزال تسعى لاستبقاء القاهرة تحت جناحها.
من ينزعج من زيارة كوريلا؟ ولماذا؟
إسرائيل: تخشى فقدان "الانفراد" بملف غزة، وترى أن أمريكا قد تعيد لمصر دور الوسيط الأول.
إثيوبيا: حديث السيسي عن "النيل كأمن قومي" أمام كوريلا يثير قلق أديس أبابا، خاصة إذا اعتُبر مؤشرًا على تحرك مصري حاسم.
تركيا: تدرك أن أي تقارب عسكري مصري–أمريكي قد يقلّص نفوذها في ليبيا وشرق المتوسط.
إيران: لا تحبذ تحركات سنتكوم على مقربة من حدودها، ومصر الشريكة لأمريكا عسكريًا تُعتبر عنصرًا غير مريح في الحسابات الإيرانية.
وماذا عن طلبات مصر من كوريلا؟
وفق تسريبات القناة 12 الإسرائيلية، فإن "المدينة الإنسانية" التي تعترض عليها مصر فإن إسرائيل انصرفت إلى إعداد خطة بديلة، ستطبق حال فشل مفاوضات غزة أو عدم التوصل إلى اتفاق يشمل وقف الحرب بعد انتهاء مهلة الستين يومًا.
---
وأخيرًا.... الحلقة الأضعف في جدار الصمود
أدركت الجهات التي تسعى لضرب مصر أن القاهرة ليست من تلك الدول التي تُرهَب بتظاهرة أو تهتز بتهديد. لكن رغم صلابة الدولة، تبقى هناك ثغرة قابلة للاستغلال.
على الإعلام أن لا يكون مجرد ناقل خبر. عليه أن يُعبّئ الشعب ويمتن لحمته مع الدولة ومؤسساتها، وأن يُعرّي التهديدات بوضوح، لا أن يغطيها بعد وقوعها.
دوره أن يكشف من يحرّك الجماعات الإرهابية، ومن يموّل الإخوان، ومن يسعى لتمزيق الوطن في توقيت تُرفع فيه البنادق لا الشعارات وليس دوره أن يقول تم تفجير أو وقوع حادث.
للأسف، إدارة هذا الملف ما زالت تفتقد الرؤية وتفتقر إلى الإبداع، وكثير من الوجوه الإعلامية الحالية تبدو منفصلة عن نبض الشارع، وتفتقر إلى المبادرة الوطنية التي يتطلبها الظرف الراهن.
.jpeg)