حين تتأمل المشهد السياسي في مصر اليوم، تكتشف أن المعارضة التي يتم تقديمها للناس ليست من نسيجهم، معارضة مصطنعة تشبه ما يُنتج في برامج المونتاج وتطبيقات الذكاء الاصطناعي: عباراتها بلا روح، وصوتها بلا جمهور.
ولعلّ المثال الأوضح على ذلك هو ما يُسمّى بـ حزب العدل، الحزب الذي صار رقمًا في معادلة مشوّهة.
ولننظر إلى الواقع دون تزييف:
قبل ثلاثة أسابيع، جلس رئيس الحزب عبد المنعم إمام في حوار تلفزيوني مع الزميلة الإعلامية لميس الحديدي على شاشة النهار،
لكنّ المفارقة التي لا تخطئها عين أن الحلقة لم يشاهدها سوى ثلاثمائة شخص فقط على “يوتيوب” طوال الأسابيع الثلاثة، وهو ما لا يتناسب بالمرة مع الرقم الضخم لمشتركي القناة والذي يزيد عن ٩ ملايين.
ثلاثمائة شخص — في بلدٍ يتجاوز سكانه المئة مليون — تكفي وحدها لتلخّص المسافة بين المعارضة الورقية أو الكرتونية، والمعارضة التي تنطلق من وجدان الناس.
ثم يخرج من يقول لك: “هذا معارض”. أيّ معارضةٍ تلك التي لا يسمعها أحد ولا يصدقها أحد ولا يؤمن بها أحد؟ بل ولا يحس بوجودها أحد.
أيّ معارضةٍ تلك التي تُدار بالبيزنس، وتستمد قوتها من رضا السلطة لا من نبض الشارع؟
بلغة بيع كتب الدين؛ فإن "وهبية" مقعد النواب في القائمة ضمن الحصة المقررة لحزب العدل في مجلس النواب وصلت إلى ٤٠ مليون جنيه لمقعد الرجال، و ٢٥ مليون لمقعد المرأة، حتى إن إحداهن من محافظة البحر الأحمر ، لا تعرف شيئا عن حزب العدل، تم ترشيحها في محافظة لا تعرف عنها شيئًا أيضًا، هي محافظة الإسكندرية، منتهى العبث.
إنها معارضة تم تجهيزها في غرف السلطة، خذ هذا العبدالمنعم، وأعمل منه معارض، وضمَّه إلى إئتلاف الأحزاب.
يحدث ذلك دون أن يسألهم أحد في دوائر القرار: كيف سيصدقنا الشعب أن هذا الحزب معارض، وهو جزء من تحالف أحزاب السلطة؟! هااا كيف؟! لا تقلق عندما نبحث للناس عن إجابة، نكون قد حققنا الغرض، وقتها يتم رميه في أقرب سلة مهملات، ويكون المعارض "جمع له قرشين حلوين".
وتعظيمًا لمبدأ "متشغلش بالك" يكفي أن تعلم أنّ هذا الحزب أصبح له تمثيلٌ واضحٌ في قنا، بلد العصبيّات، إذ جرى جلب شخص ترك قريته وذهب ليعيش في محافظة البحر الأحمر ، ليستيقظ القنائيّون ذاتَ صباحٍ فيجدوه ممثّلًا لهم في مجلس الشيوخ، ضمن مرشّحي القائمة الانتخابية الوحيدة التي تم تُجهّيزها في معامل السلطة لانتخابات الشيوخ.
لا يكاد الناس في قنا يعرفون حتى مجرد اسم ذلك الشخص الذي تم فرضه نائبًا لقنا في مجلس الشيوخ، فهو غير معروفٍ بالمرة، لا في قريته ولا في دائرته نجع حمادي.
نفس الأمر مع يتكرر الآن في انتخابات مجلس النواب، شاب يبلغ من العمر ستةً وعشرين عامًا، ولم يُمارس أيَّ دورٍ سياسي، ولا يُسجَّل له حتى عضوية في جمعيةٍ تنمية مجتمع محلية. ومع ذلك، فُرض بالقوة نائبًا عن المجتمع القنائي، ضمن القائمة الانتخابية"من أجل مصر"، فقط لأنه يعمل في مكتب عبد المنعم إمام ويتولّى شؤونه.
فهل يمكن لمن لا يُعرَف في قريته أن يُقنع الأمة بأنه لسانها؟
بل والأنطع في تاريخ الحياة الحزبية كلها بمصر، أنّ رئيس حزب العدل نفسه في المحلة الكبرى — مدينته الأصلية — لا يعرفه الناس هناك، هذا العبدالمنعم الآن أعلن ترشحه عن دائرة القاهرة الجديدة، ومنذ ذلك الإعلان لم يظهر له أي وجود في الدائرة، التي سينجح فيها؛ لا تسألني كيف، لكنه سينجح.
يحدث ذلك كله، ثم يُقال لنا بعد ذلك إن حزب العدل حزب معارض، كيف وهو جزء من ائتلاف أحزاب السلطة؟! لا أحد يجيب، ولا أحد يهتم أصلًا بالتفكير في الإجابة.
“تمام يا فندم”.
تحتها تُنسى الفوارق، وتذوب البرامج، وتُلغى الأسئلة.
كل شيء في مصر يسير في اتجاهٍ واحد.
ولعلّ محنة المعارضة في بلادنا — إن جاز أن نسمّيها معارضة — ليست في قِلّة أنصارها، ولا في انفصالها عن الشارع، بل في انشغالها عن الناس بما تهواه من مكاسب سياسية ومالية.
وما ينطبق على حزب العدل ينطبق على أحزاب الوفد والتجمع والمصري الديمقراطي، والإصلاح والتنمية وغيرها من الاحزاب الكرتونية التي تم تعليبها في دوائر النظام.
لقد غفلت تلك الأحزاب أن السياسة، في أصلها، تخاطب العقول والضمائر، قبل أن تهتف بالشعارات وتتكلم بالبرامج، تحجز مقعدها بين الناس قبل أن تحجزه لها دوائر السلطة تحت القبة.
وليس عجيبًا أن يزهد الشعب في أحزاب المعارضة أكثر من زهده في أحزاب السلطة، ما دام لا يرى فيهم صورةً منه ولا صدى لصوته، فقط وجوهًا تتبدّل وأسماءً تتكرّر في أحزاب المعارضة كما في أحزاب السلطة، كأنهم يؤدّون أدوارًا في مسرحٍ بلا جمهور.
إن مصر — يا سادة — لا يليق بها مثل هذا النموذج المفضوح.
