ظاهرة خُطّ الصعيد: (من الأسطورة الشعبية إلى البلطجة الاجتماعية)

 

 لم يعرف صعيد مصر ظاهرةً أثارت الجدل مثل ظاهرة «خُطّ الصعيد»؛ ذلك اللقب الذي امتزج في الذاكرة الشعبية بالخوف والحذر، وارتبط بصورة الشخص الخارج عن القانون، الممارس لأعمال العنف والبلطجة وسفك الدماء.


  تطورت دلالة لقب «الخُطّ» من شخصٍ حقيقي عاش في ثلاثينيات القرن العشرين إلى شخصية شعبيٍّة تتكرر في وجوهٍ جديدة كل عصر، فيتقمص بعض الخارجين على القانون دوره دون وعي، ظنًّا منهم أنهم امتدادٌ له، أو ربما كان ذلك انتقامًا من واقعٍ بائس يعيشون فيه.


* الجذور التاريخية للظاهرة :

يرجع أصل كلمة الخط إلى أول «خطّ للصعيد»، ويدعى محمد حسن الزقّار من قرية درنكة بأسيوط، والذي ظهر في النصف الأول من القرن العشرين، وكان لقبه الخط .

كان في بدايته فلاحًا فقيرًا، لكن القهر الاجتماعي والاضطراب الأمني زمن الاحتلال الإنجليزي دفعاه إلى التمرد على النظام الاجتماعي، فتحوّل من ضحيةٍ إلى جلّاد، ومن فلاحٍ فقير إلى زعيم عصابةٍ ترعب المجتمع.

ثم أصبح لقب الخط يطلق على كل من سار سيرة هذا الرجل في العنف والإجرام. 

وفي وعي الناس آنذاك، لم يكن الخط مجرد مجرم، بل كان يجد من يشجعه ويتعاطف معه . 


*أشهر من لقبوا بالخط:

كان من أشهر من تلقبوا بالخط في بلاد الصعيد:

_ محمد منصور: وهو أول من عُرف بهذا اللقب، وهو من قرية درنكة بأسيوط .

_ عزت حنفي: وقد اشتهر بنفوذه في منطقة النخيلة _ مركز (أبو تيج) بأسيوط.

_ نوفل سعد ربيع: من قرية حمرا دوم بنجع حمادي.

_ياسر الحامبولي: الذي عُرف بلقب "روبن هود" واشتهر في محافظة الأقصر.

_ نشأت عيضة: وهو من حمرا دوم بنجع حمادي .

_شعيب السيد علم الدين: من قرية القرامطة بسوهاج.

_ومن هؤلاء محمد محسوب وهو من محافظة أسيوط.


* البنية النفسية للخُطّ :

   من الناحية النفسية، يعكس الخُطّ صراع الإنسان المقهور المتمرد على القوانين والأعراف ،فهو في باطنه إنسان يائس متمرّد يسعى لاستعادة كرامته المهدورة عبر القوة، ويجد في العنف وسيلة للتعبير عن ذاته، بعد أن سُدّت أمامه كل السبل التقليدية. 

يتسم هذا النموذج بسمات شخصية نرجسية وعدوانية، يغذيها الإحساس العميق بالظلم، مع حاجةٍ مَرَضية لإثبات الذات أمام مجتمعٍ لا يمنح الاعتراف إلا لمن يمتلك القوة.


* الأسباب الاجتماعية : 

لا يمكن فهم ظاهرة «خُطّ الصعيد» بمعزلٍ عن بيئتها.

فالجنوب المصري — على الرغم من أصالته وطيبة أهله — ظلّ لسنواتٍ طويلة يعاني من الفقر، والعزلة الجغرافية، وضعف التعليم، وانتشار السلاح. 

هذه الظروف صنعت بيئةً خصبة لولادة شخصياتٍ «انتقامية»، تجد في السلاح لغةً، وفي العصبية القبلية حمايةً، فكانت ظاهرة الخط الذي يبرز صاحبها على الساحة بين الحين والآخر. 


* التحول من الزعامة إلى البلطجة :

مع مرور الزمن، فقدت هذه الظاهرة بريقها القديم، وصارت أشبه بـ«بلطجةٍ متوارثة» لا علاقة لها بالبطولة.

فقد تغيّرت القيم الاجتماعية، وتراجعت فكرة النُبل في الانتقام لتحل محلها النزعة الإجرامية الخالصة.

لم يعد «الخُطّ» اليوم فارسًا يواجه الظلم، بل رمزًا للفوضى والانفلات، والبلطجة، والسرقة بالإكراه والقتل المتسلسل.

هكذا تدهورت الأسطورة إلى «جريمة اجتماعية»، بعدما كانت تُروى كحكاية شعبية.


قراءة في الوعي الجمعي:

تبقى شخصية «خُطّ الصعيد» مرآةً تعكس العلاقة المتوترة بين الفرد والمجتمع .

فكلما غاب الوعي ، وقل التعليم،وضعف وازع الدين ، عاد الناس إلى استحضار صورته في الذاكرة الجماعية.

إنها حالة نفسية جماعية تختزل حاجة الإنسان للإنصاف والكرامة وتحقيق الذات، حتى وإن جاء هذا على هيئة تمردٍ وعنف.


* الخط ظاهرة قابلة للتكرار:

إنّ «خُطّ الصعيد» ليس مجرد شخصٍ مارس ألوان العنف والبلطجة لفترة من الزمن ثم لقي مصيره، بل هو حالة اجتماعية ونفسية متكررة، تولد كلما اجتمع انعدام الوعي، مع غياب الدين، مع سوء التربية.

وعلاج هذه الظاهرة يكمن في الرجوع إلى تعاليم الدين الصحيحة، واحترام القوانين، والتمسك بالقيم والأعراف الاجتماعية، وتنشئة الشباب على أسس التربية السليمة.

نسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا، وأن يحفظ مجتمعاتنا من كل مكروه وسوء.

         # عصمت رضوان #


                   .

تعليقات